راي

طعنة في الديوان

في هذه المساحة، سأوجّه قلمي نحو الريف، نحو ذلك العالم الذي لا يزال يحتفظ ببعضٍ من بريق التقاليد وعبق الموروثات. رغم التغيّرات الإجتماعية والثقافية تظل هناك أشياء جميلة تزيّن حياة الناس هناك، ثقافة أصيلة تحفظها الألسن والسلوك، ويعتز بها الكبار والصغار على حد سواء. عاش الآباء كما تمنّوا، وربّوا أبناءهم على الصراط المستقيم، مستلهمين الحكمة من أجدادهم الأوائل.فكانوا كرماء للضيف حين ينزل على أحدهم، يتسابقون إلى ذبح البهائم ببشاشة وفرح، دون أن يتشاوروا أو يتأخروا في استقباله، ولم يفرّقوا يومًا بين ضيف وضيف.

على مرّ الزمان، لم ينظروا إلى لون أو جنس أو قبيلة، بل عاملوا الجميع بميزان الكرامة.وعن تجربة شخصية، لا أنسى أنني ذهبت ذات مرة إلى قرية مجاورة أبحث عن غنماية ضلّت من القطيع، وتأخرت في العودة، فقررت أن أستريح في أقرب ديوان. وفي طريقي، صادفت صديقًا من أيام الدراسة الابتدائية، فما إن رآني حتى أخذني إلى منزلهم المتواضع، واستقبلني وكأنني قدمت من مكة المكرمة.

ذبح بهيمته الوحيدة، التي كان يحلبها لأطفاله، وكنت أعلم تمامًا ظروفه. قلت له:– “ما هذا يا صديقي؟ هل نحن في مقام الضيف الذي يُذبح له آخر ما يملك صاحبه؟”ابتسم بلطف، وقال:– “وهل هناك ضيف أعزّ منك يا صديقي؟”وذات صباح، لبّيت دعوة فطور من أحد الأصدقاء، وهو من أقربائي. كان المشهد أشبه بالحلم: بساطة وشهامة وكرم تفيض من كل زاوية في ديوان العمدة، حيث اجتمع رجال الحيّ على صفرة واحدة. كانت لوحة اجتماعية دافئة تُشعر المرء أن الزمن توقف، وعاد الناس إلى أصلهم.بدافع الفضول، سألت أحد الكبار بلطف:– “يا عمّي، ما سرُّ هذا التجمع؟”أجابني، وعلى وجهه دهشة ممزوجة بالرضى:– “ولدي، نحن اتربّينا على الصفرة دي، نأكل مع بعض، نفرح ونحزن مع بعض… دي تربيتنا، ودي أخلاقنا.”كانوا يتجمّعون فلا يُترك أحد في المنزل، حتى ذوو الاحتياجات الخاصة يأتون إلى الديوان عندما يحين وقت الوجبات.

هؤلاء لم يكونوا قدوة لجيلهم فحسب، بل وضعوا لبنات راسخة في الكرم، والشهامة، والنخوة. في السودان، لم يكن أحد يُفرض على أحد مهما كان لونه أو دينه.وبينما نحن نتبادل الحديث، جاء ابن العمدة مسرعًا، وهمس في أذن أبيه بكلمات لم نسمعها، فتغيّر وجه العمدة فجأة. ثم قال بصوت خافت ولكنه مسموع:– “الولد أحمد التوم… سرق بهائم أخوه يس التوم.”ساد صمت ثقيل في الديوان.

بعضهم أنزل رأسه، وآخرون تبادلوا نظرات الاستغراب والخذلان. لم يكن أحد يتوقّع أن يبلغ الحال هذا المستوى، أن تمتد يد الأخ إلى رزق شقيقه، وأن تُدنَّس حرمة الرحم بهذا الشكل.تسرّب الخبر كالنار في الهشيم، وتوالت التساؤلات في المنطقة:– “أحقًّا فعلها؟ لماذا؟ ومتى بلغ بنا الحال أن يخون الأخ أخاه؟”وقف شيخ كبير من الحضور، وقال بحزن:– “يا أولادي، السرقة دي ما سرقة بهائم… دي سرقة ثقة، سرقة دم، سرقة ضهر. أخو يخون أخوه؟ دي والله السرقة المُضِرّة!”منذ ذلك اليوم، تغيّر شيء في نفوس الناس. لم تعد الصفرة كما كانت، ولا الديوان كما عهدناه. وكأن الأرض نفسها ضاقت بخطوة من خان خُطى أجداده

غازي جابر _ السودان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *