ساعات قليلة تفصلنا عن عيد الأضحى المبارك، ذلك العيد الذي ينتظره كثير من المواطنين باعتباره من أهم الشعائر الإسلامية، حيث خلّد ذكرى الفداء العظيم، حين فُدي سيدنا إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. ومنذ ذلك الحين، صار الناس يذبحون الأنعام تقرّبًا إلى الله، ولكل نوع من الأنعام عمر محدد تُجزئ فيه كأضحية. فالضأن تُجزئ منه من بلغ ستة أشهر، ويُستحسن أن تكون الأضحية خالية من العيوب، خاصة إذا كانت أنثى، ويطلق عليها محليًا “عبور”.
تصنيفات إناث الضأن في السودان
في الأسواق السودانية، يتداول المربّون وتجار المواشي تقسيمات معروفة لإناث الضأن، وهي كالتالي:
• حَملة: وهي الصغيرة، عمرها لا يتجاوز شهرين.
• عبور عِقّة: أكبر قليلاً، قد يصل عمرها إلى أربعة أشهر، ولم يُجزّ صوفها بعد.
• عبور خِلفة: وصلت إلى عمر ستة أشهر، وجُزّ صوفها مرة واحدة.
• عبور عزباء: لم تلد من قبل، لكنها كبيرة الحجم، وهي مرغوبة بشدة لدى أصحاب الملاحم وأولئك الذين يذبحون في “الكرامات”.
• النعجة: هي كل أنثى ولدت من قبل، حتى لو مات جنينها أثناء الولادة.
هذه المصطلحات ليست مجرد توصيفات سوقية، بل تعبيرات متجذّرة في الثقافة السودانية، تنبض بالحكمة الشعبية والدراية الفطرية بتربية الماشية، وتُظهر العلاقة الوثيقة التي تجمع الإنسان السوداني بالحيوان الذي يربيه ويعتمد عليه في رزقه وكرامته.
لماذا يختار الناس “العبور الخِلفة”؟
تُعد “العبور الخِلفة” من الخيارات المناسبة لشرائح واسعة من المجتمع، خاصةً أصحاب الدخل المحدود، وأولئك الذين يسعون لإدخال الفرح على أبنائهم في مناسبة عيد الأضحى. فالأضحية ليست مجرد شعيرة، بل أصبحت ثقافة مجتمعية يحرص عليها الجميع، ويُقدِّم فيها كلٌ ما يستطيع، حبًا في الله، وإحياءً لسنة الأنبياء، وكرامة للعيد.
وهكذا، في ظل الضيق، تتجلى عظمة هذه الشعيرة، حيث تتساوى البيوت في الطموح وإن اختلفت في القدرة. يُضحِّي الغني من وسعه، ويحاول الفقير أن يشارك ولو بالقليل. هي لحظة تتوحد فيها النفوس على معنى واحد: الفرح بالطاعة، رغم العجز أحيانًا عن الوفاء بكل متطلباتها.
ظروف اقتصادية قاهرة
مرّ السودان هذا العام بظروف اقتصادية بالغة القسوة بسبب الحرب، وقد انعكس ذلك مباشرة على حياة المواطنين. ارتفاع أسعار الوقود، وتدهور سعر الصرف، وغلاء السلع الاستراتيجية، جميعها ساهمت في زيادة تكاليف الإنتاج الزراعي ونقل المواشي، وارتفاع أسعار الأعلاف، وأجور الرعاة والعُمال.
لقد أصبحت الحياة اليومية معركة بقاء، فيها يكافح الناس من أجل الضروريات، لا الكماليات. فكيف يُلام من لم يستطع شراء خروف للعيد، إذا كانت كل نفقات الحياة تقف في وجهه كجبل شاهق؟ ومع ذلك، تظل القلوب معلقة بالعيد، وبالضحية، وبأمل لا ينكسر.
( أسعار الأضاحي هذا العام (2025
إليك قائمة تقريبية بأسعار الأنعام حسب تصنيفاتها في بعض أسواق الدمازين:
• الحَملة: 150,000 جنيه (في سوق الدمازين).
• العبور العِقّة: متوسط السعر 200,000 جنيه (يختلف حسب الوزن).
• العبور الخِلفة: بين 250,000 إلى 350,000 جنيه.
• العبور العزباء: بين 350,000 إلى 400,000 جنيه.
• الذكور الجاهزة للأضحية: بين 400,000 إلى 500,000 جنيه (أعلى من قدرة الكثيرين).
هذه الأسعار توضح أن الأضحية أصبحت عبئًا ماليًا كبيرًا، وربما تُستعاض عنها في بعض البيوت بـ “وليمة ذبح” لا ترقى إلى مرتبة الأضحية الشرعية.
من رحم الحرب: مبادرات الأمل
في خضم هذا الواقع، تنبثق بعض المبادرات التي تبعث الأمل:
• أطلقت القوات المسلحة مبادرة لتوفير أضاحٍ بأسعار مناسبة للمواطنين. نأمل أن تمتد لتشمل القرى، المدن الطرفية، والمناطق الأكثر تضررًا.
• نُناشد منظمات المجتمع المدني بتوجيه برامجها الموسمية نحو شراء الأضاحي وتوزيعها للمحتاجين، فالحاجة هذا العام أوسع من أن تُحصر في تقارير أو إحصاءات.
• نُناشد اتحاد المعلمين باستعادة مبادرته القديمة في توزيع الأضاحي بالتقسيط، دعمًا لقطاع ظلّ صامدًا رغم قسوة الحرب.
• نُناشد رجال الأعمال بتفعيل مبادرات الخير في أحيائهم ومجتمعاتهم، فالجوار أقرب من الشعارات، والمعروف لا يُبخس ولو كان خروفًا واحدًا.
كلمة أخيرة للمواطنين
إلى كل من لم يستطع هذا العام شراء أضحية، لا تنكسر. إن الله يعلم ما في القلوب، ويكتب الأجر على النية الصادقة، والعجز لا يُسقط التكليف بل يرفعه بلطف ورحمة. العيد ليس لحومًا فقط، بل فرح، وسلام، ومحبة، وتزاور، وتراحم. وكل من أدخل سرورًا على قلب أهله، فهو من أهل العيد.
أيها العيد، تعال كما أنت، ببركتك، بضحكات الأطفال، بدموع الأمهات، بصبر الآباء، وبأمل الفقراء… تعال رغم الحرب، وقل لنا: لا زال في السودان فرح ينتظر أن يُفتح له الباب.
غازي جابر
كاتب سوداني مهتم بالشأن السياسي وقضايا التحول الديمقراطي