الدولية

من الاكتفاء البسيط إلى صراع الهوية… تأملات في تحولات المجتمع السوداني

في السنوات الماضية، كنا نعيش وفق إمكانيات بسيطة تُدبّر بها أمور حياتنا اليومية. كنا نواجه مصاعب الحياة بقدرٍ من الرضا، وبأسلوب معيشة متواضع لكنه مستقر. أسترجع ذاكرتي الآن، فأجد أن والدي، كما آباء جيله، كان يتحمّل مسؤولية إعالة الأسرة وحده، دون أن يشتكي أو يكلّ، بل كان يفخر بذلك.

لم يكن حالنا استثناءً، بل كان نمطًا عامًا في المنطقة كلها. كانت الحياة قائمة على ما يجنيه الأب من رزق، وغالبًا ما يوزع الأدوار على أبنائه كلما تقدم بهم العمر، خاصة إن امتلك ثروة حيوانية، كما كان شائعًا في القرى. كانت تلك الأدوار إدارية أو إشرافية، لكنها لا تتضمن مسؤولية الإنفاق على الأسرة.

ورغم بساطة الوسائل، سارت الحياة بسلاسة. لم تكن هناك صراعات حادة تُذكر، باستثناء بعض المناوشات الموسمية بين الرعاة والمزارعين، والتي كانت تُحل سريعًا بالحكمة والتعقّل. أما الآن، فالأمور تغيّرت كثيرًا.

كلما تغيّرت الحكومات وتعاقبت الأنظمة السياسية، بدأنا نشهد تحوّلًا مقلقًا: صراعات قبلية بدأت تتصاعد، بعضها امتداد لنزاعات قديمة، لكنها تطوّرت إلى صراعات مدمّرة تهدّد السِّلم الاجتماعي. كان أهلنا في السابق يسارعون لاحتواء تلك التوترات، ويطفئون نارها قبل أن تشتعل. كانت المجالس التقليدية، ومجالس القلد، وأعيان القبائل، أدوات فعالة لحل النزاعات. يعود ذلك إلى إرث الحكمة والتسامح والتكافل الذي عُرف به المجتمع السوداني.

غير أن هذه المجالس ظلّت حكرًا على الرجال، دون إشراك النساء في عمليات الصلح المجتمعي أو اتخاذ القرارات القبلية. ورغم أن النساء يتأثرن بشكل مباشر بنتائج النزاعات، ويقمن بدور محوري في حفظ النسيج الاجتماعي، إلا أن تغييبهن عن هذه المساحات التقليدية عمّق شعورًا بالتمييز وعدم الإنصاف. هذا الإقصاء التاريخي ساهم في تفاقم التوترات، وأضعف من فرص بناء سلام اجتماعي شامل يُعبّر عن كل أطراف المجتمع.

ومع مرور الوقت، برزت نزاعات لم تُحل. تفاقمت بعضها وتحوّلت إلى صراعات تتجاوز المطالب المعيشية، كأنها بحثٌ عن الذات، أو رفضٌ لهوية مفروضة. فشلت كل الجهود المجتمعية في التوصل إلى حلول جذرية. أغلب المبادرات باءت بالفشل، لأن أطراف الصراع ترفض التنازل، وكل طرف يرى أنه وحده على حق.

الأخطر من كل ذلك، أن هذه الصراعات توسّعت على حساب ثقافة وهوية مجموعات اجتماعية بأكملها. فقد عملت الأنظمة العسكرية المتعاقبة على قمع هذه المجموعات، وفرضت هوية أحادية لا تمثل التنوع الحقيقي للسودان. كانت النتيجة تهميشًا ممنهجًا وطمسًا للهويات الإفريقية، التي لم تجد في تلك الهوية المفروضة أي تمثيل لخصوصياتها.

لقد أثبت التاريخ أن السودان لا يستقيم بنظام يستند إلى هوية واحدة، تُقصي الآخرين، أو تهيمن عليهم. واحدة من أعقد مشكلات السودان المعاصرة هي صراع الهوية، وليس مجرد صراع سياسي.

لطالما ردّد الكُتّاب والناشطون، في مختلف المنصات، بأن السودان ليس حقًّا حكرًا على مجموعة أو قبيلة أو فئة واحدة، بل هو وطنٌ يتّسع للجميع. ومن هنا، فإننا بحاجة إلى مشروع وطني جامع، يُفضي إلى صياغة دستور تُشارك فيه كل المكونات السودانية: نساءً ورجالًا، خبراء ومهنيين، ممثلي المجتمع المدني والأهلي.

ما يزيد الأمر تعقيدًا، أن بعض القيادات السياسية التي تُفترض فيها تمثيل المجموعات المهمشة، انشغلت بمصالحها الضيقة، وتاجرت بقضايا تلك المجتمعات، فكانت النتيجة اتفاقيات سياسية مؤقتة لا تعالج جذور الصراع، بل تكتفي بتقاسم السلطة. وهنا يبرز السؤال الجوهري:

هل الصراع في السودان سياسي فقط؟ الإجابة: بالتأكيد لا. فهناك صراع سياسي، لكن في عمقه، هو صراع وجود وهوية. المجموعات التي تعرّضت لطمس هويتها لا ترى نفسها معنيّة باتفاقيات لا تعكس كيانها ولا تحترم ثقافتها. وهذا ما أثبتته تجارب أديس أبابا، نيفاشا، وجوبا.

إن السودان في حاجة ماسّة إلى نظام جديد، ينطلق من مشروع وطني جامع، يؤسس لدستور قومي، تُشارك في صياغته كل مكونات الدولة. نظام يعترف بالتعددية، ويحتضن كل الهويات، ويقوم على الكفاءة لا على المحاصصة، وعلى المواطنة لا الامتيازات.

السودان لكل السودانيين. كما كان… وكما يجب أن يكون.

غازي جابر
كاتب سوداني مهتم بالشأن السياسي و باحث في قضايا التحول الديمقراطي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *