في خضم الحرب التي اجتاحت السودان منذ منتصف أبريل 2023م، لم يكن الدمار محصورًا في البنية التحتية أو في المؤسسات فحسب، بل امتد ليطال الكيان الإنساني والوجداني لشعب بأكمله. ومن بين أكثر الفئات تضررًا، كان الشباب، الذين وجدوا أنفسهم بين نارين: نار القتال في الداخل، ونار الاغتراب في المنافي. في هذا الزمن المسموم بالفوضى والتشظي، أعادت أزمة الهوية إنتاج نفسها، ولكن بأشكال جديدة، تلبّستها الهجرة، النزوح، والانفصال الوجداني عن الوطن.
التاريخ السوداني يعيد إنناج نفسه
يبدو أن تاريخنا السوداني يعيد تكرار نفسه من جديد، عبر أزمة الهوية الأحادية المتطرفة والمنعزلة، التي تُقصي هويات مجتمعية أخرى، فتُعيد إنتاج ذات المأساة بثوبٍ مختلف. ما يحدث أشبه بعملية تفكيك كاملة لوحدة المجتمع السوداني، وقد يمتد لاحقًا إلى تفكيك الدولة نفسها، إذا ما اعتبرنا أن المجتمعات التي جرى تهميشها بدأت تعيد تكوين ذاتها خارج إطار الدولة، وفي مواجهة سلطةٍ تفرض هوية متطرفة لا تمثلها.
اقرا ايضا: الوعود الجوفاء في السودان: ماذا تبقّى من سلة غذاء العالم؟
هذه الأزمة تحولت إلى قلق كبير بين أوساط الشباب، فهم يرون أن الهوية المفروضة على السودانيين لا تزال غامضة، لم تُفهم بعد حتى تُحاكم أو تُعتمد كأساس للحكم. ما فُرض لم يكن سوى ستار أيديولوجي تخفّت خلفه الطبقة الحاكمة، ولا يُعبّر عن أحد فعليًا سوى شتات مجتمع وجد نفسه معزولًا عن دولته.
وهذا هو التناقض الأكبر، يا عزيزي القارئ؛ إذ يفترض أن تُدار الدولة وفقًا لرؤى الجماهير وتطلعاتهم، لا أن تُختزل في تصورات نخبةٍ ضيقة. وإذا استثنينا واقع الحكومة الحالية، التي حوّلها سلاح الميليشيا إلى حالة “لا دولة” في أماكن عديدة من السودان، فإننا لم نفقد فقط السيطرة على ولايات ومدن سقطت بيد مليشيا الدعم السريع الإرهابية، بل فقدنا أيضًا عددًا كبيرًا من الشباب السوداني الذين هاجروا إلى دول العالم الآخر.
الحسرة على فقدان طاقات الشباب
لم تكن الحسرة فقط على ما عانوه في طريق الهجرة غير الشرعية، ولا على ما يتعرضون له من تهديدات المجموعات الإرهابية التي تتربص بهم في الصحارى والبحار – وهي مجموعات تعرف جيدًا كيف تصطاد هؤلاء الشباب – بل كانت الحسرة الكبرى على تلك الطاقات الإيجابية والعقول النيّرة، التي كنا نأمل أن تسهم في بناء الوطن وخدمة السودانيين.
نحن نثق تمامًا في مقدرة هذا الجيل، ولذلك كان عزاؤنا الوحيد أن يواجه هؤلاء الشباب واقعهم الجديد بشجاعة، رغم اختلاف الهوية والثقافة بين المجتمعات التي لجؤوا إليها والمجتمع السوداني. صحيح أنهم قد يجدون في تلك الدول مناخًا للحريات وظروفًا أفضل للعيش، لكنهم سيعانون أيضًا من أزمة الهوية والبحث عن الذات، خاصة حين يُفرض عليهم العيش في معسكرات أو ظروف استثنائية تعرقل مسيرتهم وتخصم من أعمارهم.
نحن نسأل بمرارة: كم ستحيا يا ابن وطني؟ كم من عمرك ستقضيه في البدء من الصفر؟!
الشباب اليوم يواجه تحديًا جديدًا يتعلق بهويته، فبمجرد أن يصل إلى الدولة التي يقصدها، تصبح غايته القصوى أن يحصل على جنسيتها، ولو كلّفه ذلك عمرًا بأكمله. وهذا ما نحزن لأجله.
السنوات التي يقضيها شبابنا في الخارج، بحثًا عن هوية أو وطن بديل، كان الأجدر بها أن تُستثمر هنا، في وطنه الأم؛ ليخدمه ويخدم أهله، فيستفيد منه العباد، ويستفيد منه الوطن.
غازي جابر _ كاتب سوداني مهتم بالشأن السياسي وقضايا التحول المدني الديمقراطي
اقرا ايضا: عادات نوم المراهقين تؤثر على صحة قلبهم في المستقبل
تعليق واحد