راي

سلام بلا عدالة؟… قراءة في مواقف القوى السياسية من الحرب في السودان

منذ اندلاع الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة في أبريل 2023، تحولت الحرب من نزاع سياسي على السلطة إلى صراع وجودي حاسم، يهدد بتفكيك الدولة السودانية وزوال مؤسساتها. لم تكن مجرد مواجهة مسلحة عابرة، بل كانت حربًا بمقاييس غير مسبوقة، تجاوزت التحليلات التقليدية وخذلت كل من ظن أنها ستنتهي سريعًا على طاولة التفاوض.

لطالما رُددت المقولة الشهيرة “لا منتصر في الحرب”، وكأنها قاعدة أخلاقية مطلقة. لكن واقع السودان يطرح سؤالًا صادمًا: هل يمكن لحرب أن تنتهي بلا منتصر؟ وكيف يُعقل أن تُعلن نهاية الحرب بينما المجرم حر، والضحية بلا عدالة، والدولة بلا مؤسسات؟ سواء جاء الحل عبر التفاوض أو عبر الحسم العسكري، لا يمكن الحديث عن نهاية عادلة لحرب دون تحديد من انتصر، ومن انهزم، ومن يُحاسب.

الحرب المستمرة أنهكت البلاد حتى النخاع: بنية تحتية مدمرة، اقتصاد منهار، تفكك مجتمعي، انهيار للجامعات ومراكز البحوث، وشلل كامل في مؤسسات الدولة. مناطق بأكملها أُفرغت من سكانها، وتحولت بعض المدن إلى مسارح لجرائم حرب موثقة، وعلى رأسها دارفور، الخرطوم، والجزيرة.

اقرا ايضا: طعنة في الديوان

ورغم وضوح الكارثة، فشلت النخبة السياسية في تقديم قراءة واقعية لطبيعة الصراع. لم يفهم كثيرون – وربما تجاهلوا عمدًا – أن ما يجري ليس صراعًا على الحكم، بل محاولة منظمة لتفكيك السودان، جغرافيًا واجتماعيًا وسياديًا. ولعل هذا العجز في فهم جوهر الحرب هو ما أفرز مواقف سياسية متخبطة، خاصة من تحالف قوى الحرية والتغيير، الذي فشل في تقديم موقف وطني جامع، وانقسم على نفسه بين متماهٍ مع الدعم السريع، وآخر يحاول التوازن بلا جدوى.

هذا الانحياز – حتى وإن كان غير معلن – أربك الرأي العام، وعزز الانقسام داخل المجتمع السوداني، وسمح للمليشيا بتسويق نفسها كـ”طرف سياسي”، بينما هي في الحقيقة قوة عسكرية تمارس الإرهاب المنظم وترتكب الفظائع. فهل يُعقل أن يُطرح السلام مع طرف لم يلتزم يومًا بأي مواثيق أو اتفاقات؟ وهل من المنطقي أن تُعاد دمجه في العملية السياسية بعد أن قتل وشرد واغتصب ودمّر؟

بل الأدهى أن هذا الطرح يجد دعمًا إقليميًا ودوليًا من قوى ترى في استقرار السودان خطرًا على مصالحها، أو في الفوضى فرصة لتعميق النفوذ. وهنا يتقاطع الداخل مع الخارج، وتتعمق الأزمة.

ثم جاءت مبادرات جديدة مثل تحالف القوى المدنية الديمقراطية (صمود)، لتعيد الأمل جزئيًا، لكن سرعان ما خابت التوقعات. لم يخرج هذا التحالف من عباءة الخطاب النخبوي القديم، وظل أسيرًا للندوات والتصريحات الباردة، بدل أن يتحول إلى أداة لتحريك الشارع وبناء مشروع وطني حقيقي يُعبّر عن آمال السودانيين في دولة حرة وعادلة.

السلام، في معناه الجوهري، ليس إنهاءً للقتال فحسب، بل إرساء للعدالة، وردٌ للحقوق، وإنصافٌ للضحايا، ومحاسبةٌ للجناة. وأي محاولة لتجاوز ذلك – عبر طاولات الحوار أو ضغوط الخارج – لن تؤسس إلا لمرحلة جديدة من السلام الزائف، والبؤس المؤجل.

فإذا ما تمت المصالحة مع قوات الدعم السريع دون محاسبة، فإننا لا نقيم سلامًا، بل نشرعن للإفلات من العقاب، ونفتح الباب لحروب قادمة. إن العدالة ليست ترفًا سياسيًا، بل حجر الزاوية في أي مشروع لبناء الدولة، والسلام الذي لا يقوم عليها، هو سلام مفرغ من معناه، وانحياز صارخ للجلاد على حساب الضحية.

غازي جابر _ كاتب سوداني _ مهتم بالشأن السياسي وقضايا التحول المدني الديمقراطي

اقرا ايضا: موازين القوة وحسابات النصر في حرب السودان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *